فصل: تفسير الآيات رقم (1- 7)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 41‏]‏

‏{‏كَلَّا وَالْقَمَرِ ‏(‏32‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ‏(‏33‏)‏ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ‏(‏34‏)‏ إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ ‏(‏35‏)‏ نَذِيرًا لِلْبَشَرِ ‏(‏36‏)‏ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ‏(‏37‏)‏ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ‏(‏38‏)‏ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ ‏(‏39‏)‏ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏40‏)‏ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

ولما كان حصرها في الذكرى ربما أوهم نقصاً في أمرها يوجب لبعض المعاندين ريبة في عظمه وأنه لا حقيقة لها ولا عذاب فيها، قال رادعاً من ذلك ومنبهاً على الاستعداد والحذر بكلمة لاردع والتنبيه‏:‏ ‏{‏كلا‏}‏ أي إياك أن ترتاب في أهوالها وعظيم أمرها وأحوالها وأوجالها لأن الأمر أطم وأعظم مما يخطر بالبال، فليرتدع السامع ولينزجر‏.‏

ولما حصر أمرها في الذكرى ونفى أن يظن بها نقص فيما جعلت له تأكيداً للكلام إشارة إلى ما لأغلب المخاطبين من الشكاسة والعوج إيقاظاً مما هم فيه من الغفلة وتلطيفاً لما لهم من اللوم والكثافة وتنبيهاً لهم على السعي في تقويم أنفسهم بما يستعملونه من الأدوية التي يرشدهم سبحانه إلى علاج أمراض القلوب بها، زاد الأمر تأكدياً فأقسم على ذلك بما هو ذكرى للناس ولا يظهر معه ظلام الليل كما أن ضياء القرآن لا يظهر معه ظلام الجهل من أعمل عين فكرته، وألقى حظوظ نفسه، فقال‏:‏ ‏{‏والقمر *‏}‏ أي الذي هو آية الليل الهادية لمن ضل بظلامه ‏{‏واليل إذا أدبر *‏}‏ أي مضى فانقلب راجعاً من حيث جاء فانكشف ظلامه فزال الجهل بانكشافه، وانصرفت الريب والشكوك بانصرافه ‏{‏والصبح إذا أسفر *‏}‏ أقبل ضياؤه فجل العلم بحلوله، وحصلت الهداية بحصوله، أو دبر بمعنى «أقبل» قال قطرب‏:‏ تقول العرب‏:‏ دبرني فلان أي جاء خلفي‏.‏

ولما أقسم على ما أخبر به من ذكراها، وأكده لإنكارهم العظيم لبلاياها استأنف تعظيمها والتخويف منها تأكيداً للتخويف لما تقدم من الإنكار فقال‏:‏ ‏{‏إنها‏}‏ أي النار التي سقر دركة من دركاتها، وزاد في التأكيد على مقتضى زيادتهم في الاستهزاء فقال‏:‏ ‏{‏لإحدى الكبر *‏}‏ أي من الدواهي والعظائم، جمع كبيرة وكبرى، وهو كناية عن شدة هولها كما يقول‏:‏ هو أحد الرجال أي لا مثل له، أو المراد بها واحدة سبع هي غاية في الكبر أي دركات النار، وهو جهنم فلظى فالحطمة فالسعير فسقر فالجحيم فالهاوية، هي إحداها في عظيم أقطارها وشديد إيلامها وإضرارها، حال كونها ‏{‏نذيراً‏}‏ عظيماً أو من جهة نذارتها أو إنذاراً بالغاً‏:‏ فعيل بمعنى المصدر مثل ‏{‏فكيف كان نكير‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 18‏]‏ أي إنكاري، وعبر بقوله‏:‏ ‏{‏للبشر *‏}‏ لما تقدم من الإشارة إلى إسراع الجسم العادي في قبول التأثر لا سيما بالنار‏.‏

ولما كان التقدم عند الناس لا سيما العرب محبوباً والتأخر مكروهاً، وكان سبحانه وتعالى قد خلق في الإنسان قوة واختياراً بها يفعل ما قدره الله له وغطى عنه علم العاقبة حتى صار الفعل ينسب إليه وإن كان إنما هو بخلق الله، قال تعالى باعثاً لهم على الخير ومبعداً من الشر مستأنفاً أو مبدلاً جواباً لمن يقول‏:‏ وما عسى أن نفعل‏؟‏ أو ينفع الإنذار وقد قال إنه هو الهادي المضل ‏{‏يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء‏}‏ ‏{‏لمن شاء‏}‏ أي بإرادته، وصرح بالمقصود لئلا يتعنت متعنتهم فيقول‏:‏ المراد غيرنا، فقال‏:‏ ‏{‏منكم‏}‏ أي أيها المعاندون ‏{‏أن يتقدم‏}‏ أي إلى الخيرات ‏{‏أو يتأخر *‏}‏ أي عنها فيصل إلى غضب الله تعالى والنار التي هي أثر غضبه، التي جعل ما عندنا من مؤلم الحر ومهلك البرد متأثراً عن نفسيها تذكيراً لنا ورحمة بنا، وحذف المفعول لأن استعماله كثير حتى صار يعرف وإن لم يذكر، وترجمة ذلك‏:‏ لمن شاء أن يتقدم التقدم بما له من المكنة والاختيار في ظاهر الأمر، ولمن شاء أن يتأخر التأخر، و‏{‏أن يتقدم‏}‏ مبتدأ، وهو مثل «لمن يتوضأ أن يصلي» ويجوز أن تكون الجملة بدلاً من «للبشر» على طريق الالتفات من الغائب إلى الحاضر ليصير كل مخاطب به كأنه هو المقصود بذلك بالقصد الأول فيتأمل المعنى في نفسه فيجده صادقاً ثم يتأمل فلا يجد مانعاً من تعديته إلى غيره من جميع البشر، ويكون «أن» والفعل على هذا مفعولاً ل «شاء»‏.‏

ولما كان التقدم والتأخر بالأفعال، وكان أكثر أفعال الإنسان الشر لما جبل عليه من النقصان، قال مبيناً لما يقدم وما يؤخر ‏{‏كل نفس‏}‏ أي ذكر أو أنثى على العموم ‏{‏بما كسبت‏}‏ أي خاصة لا بما كسب غيرها ‏{‏رهينة *‏}‏ أي مرتهنة بالفعل، اسم بمعنى‏.‏ الرهن كما في قول الحماسي‏:‏

أبعد الذي بالنعف نعف كويكب *** رهينة رمس ذي تراب وجندل

لا تأنيث «رهين» الذي هو وصف، لأن فعيلاً بمعنى مفعول يستوي مذكره ومؤنثه، ولو كانت الفواصل التي يعبرون بها عن السجع تأدباً تراعى في القرآن بوجه لقيل‏:‏ رهين- لأجل يمين، ولكن لا نظر فيه لغير المعنى، ويجوز أن تكون الهاء للمبالغة بمعنى موثقة إيثاقاً بليغاً محبوسة حبساً عظيماً فهي في النار، فجعل الأصل في الكسب الموثق‏.‏

ولما كان الرهن تارة يفك وتارة يغلق، وكان أكثر الخلق هالكاً، جعل رهينة بمعنى هالكة، ثم استثنى الممدوح فقال‏:‏ ‏{‏إلا أصحاب اليمين *‏}‏ أي الذين تقدم وصفهم وهم الذين تحيزوا إلى الله فائتمروا بأوامره وانتهوا بنواهيه، فإنهم لا يرتهنون بأعمالهم، بل يرحمهم الله فيقبل حسناتهم ويتجاوز عن سيئاتهم‏.‏

ولما أخرجهم عن حكم الارتهان الذي أطلق على الإهلاك لأنه سببه، استأنف بيان حالهم فقال‏:‏ ‏{‏في جنات‏}‏ أي بساتين في غاية العظم لأنهم أطلقوا أنفسهم وفكوا رقابهم فلم يرتهنوا، فالآية من الاحتباك‏:‏ أثبت أولاً الارتهان دليلاً على حذف ضده ثانياً، وأثبت ثانياً الجنة دليلاً على حذف ضدها أولاً‏.‏

ولما كان السؤال عن حال الغير دالاً دلالة واضحة على الراحة والفراغ عن كل ما يهم النفس، عبر عن راحتهم في أجل وعظ وألطف تحذير بقوله‏:‏ ‏{‏يتساءلون *‏}‏ أي فيما بينهم يسأل بعضهم بعضاً ‏{‏عن المجرمين *‏}‏ أي أحوال العريقين في قطع ما أمر الله به أن يوصل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 50‏]‏

‏{‏مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ‏(‏42‏)‏ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ‏(‏43‏)‏ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ‏(‏44‏)‏ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ‏(‏45‏)‏ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ‏(‏46‏)‏ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ‏(‏47‏)‏ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ‏(‏48‏)‏ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ‏(‏49‏)‏ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ‏(‏50‏)‏‏}‏

ولما كان يوم القيامة في غاية الصعوبة وكان أحد مشغولاً بنفسه، فكان لا علم له بتفاصيل ما يتفق لغيره، وكان أولياء الله إذا دخلوا دار كرامته أرادوا العلم بما فعل بأعدائهم فيه سبحانه، فتساءلوا عن حالهم فقال بعضهم لبعض‏:‏ لا علم لنا، فكشف الله- لهم عنهم حتى رأوهم في النار وهي تسعر بهم ليقر الله أعينهم بعذابهم، زيادة في نعيمهم وثوابهم، كما تقدم في الصافات عند قوله ‏{‏قال قائل منهم إني كان لي قرين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 51‏]‏ وكان بساط- الكلام دالاً على هذا كله، أشار لنا سبحانه إليه بقوله حكاية عما يقول لهم أولياؤهم توبيخاً وتعنيفاً وشماتة وتقريعاً تصديقاً لقوله تعالى ‏{‏فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 34‏]‏ الآية، ولتكون حكاية ذلك موعظة للسامعين وذكرى للذاكرين‏:‏ ‏{‏ما‏}‏ هي محتملة للتوبيخ والتعجيب ‏{‏سلككم‏}‏ أي أدخلكم أيها المجرمون إدخالاً هو في غاية الضيق حتى كأنكم السلك في الثقب ‏{‏في سقر *‏}‏ فكان هذا الخطاب مفهماً لأنهم لما تساءلوا نفوا العلم عن أنفسهم، وكان من المعلوم أن نفي العلم لأنهم شغلوا عن ذلك بأنفسهم وأنهم ما شغلوا- مع كونهم من أهل السعادة- إلا لأن ذلك اليوم عظيم الشواغل، وكان من المعلوم أنه إذا تعذر عليهم علم أحوالهم من أهل الجنة وهم غير مريدين الشفاعة فيهم فلم يبق لهم طريق إلى علم ذلك لا يظن به التعريض للشفاعة إلا السؤال منهم عن أنفسهم في أنهم يخاطبونهم بذلك فيعلمون علمهم ليزدادوا بذلك غبطة وسروراً بما نجاهم الله من مثل حالهم ويكثروا من الثناء على الله تعالى بما وفقهم له وليكون ذلك عظة لنا بسماعنا إياه فحكى الله أنهم لما سألوهم ‏{‏قالوا‏}‏ ذاكرين علة دخولهم النار بإفساد قوتهم العملية في التعظيم لأمر الله فذلكة لجميع ما تقدم من مهمات السورة بما حاصله أنهم لم يتحلوا بفضيلتين ولم يتخلوا عن رذيلتن تعريفاً بأنهم كانوا مخاطبين بفروع الشريعة، وفي البداءة بالعمل تنبيه على أنه يجب على العاقل المبادرة إلى ما يأمره به الصادق لأنه المصدق لحسن الاعتقاد، والمبادرة إلى التلبس بالعمل أسهل من المبادرة إلى التلبس بالعلم، لأن العمل له صورة وحقيقة، ومطلق التصوير أسهل من التحقيق، ومن صور شيئاً كان أقرب إلى تحقيقه ممن لم يصوره، فكان أجدر بتحقيقه ممن لم يباشر تصويره، ففيه حث على المسابقة إلى الأعمال الصالحة وإن لم تكن النية خالصة، وإيذان بأن من أدمن ترك الأعمال قاده إلى الانسلاخ من حسن الاعتقاد، وورطه في الضلال، ‏{‏لم نك‏}‏ حذفوا النون دلالة على ما هم فيه من الضيق عن النطق حتى بحرف يمكن الاغتناء عنه، ودلالة على أنه لم يكن لهم نوع طبع جيد يحثهم على الكون في عداد الصالحين، وكان ذلك مشيراً إلى عظيم ما هم فيه من الدواهي الشاغلة بضد ما فيه أهل الجنة من الفراغ الحامل لهم على السؤال عن أحوال غيرهم، وكان ذلك منبهاً على فضيلة العلم‏:‏ ‏{‏من المصلين *‏}‏ أي صلاة يعتد بها، فكان هذا تنبيهاً على أن رسوخ القدم في الصلاة مانع من مثل حالهم، وعلى أنهم يعاقبون على فروع الشريعة وإن كانت لا تصح منهم، فلو فعلوها قبل الإيمان لم يعتد بها، وعلى أن الصلاة أعظم الأعمال، وأن الحساب بها يقدم على غيرها‏.‏

ولما نفوا الوصلة بالخالق، أتبعوه إفساد القوة العملية بعدم وصلة الخلائق بترك الشفقة على خلق الله فقالوا‏:‏ ‏{‏ولم نك‏}‏ بحذف النون أيضاً لما هم فيه من النكد ونفياً لأدنى شيء من الطبع الجيد ‏{‏نطعم المسكين *‏}‏ أي لأجل مسكنته، نفوا هنا وجود إطعامه لأنهم إن اتفق إطعامهم له فلعلة أخرى غير المسكنة، وأما الصلاة فهم يوجدونها لله بزعمهم، لكن لما كانت على غير ما أمروا به لم تكن مقبولة فلم يكونوا من الراسخين في وصفها‏.‏ ولما سلبهم التحلي بلباس الأولياء أثبت لهم التحلي بلباس الأشقياء بإفساد القوة النطقية جامعاً القول إلى الفعل فقالوا‏:‏ ‏{‏وكنا‏}‏ أي بما جبلنا عليه من الشر ‏{‏نخوض‏}‏ أي نوجد الكلام الذي هو في غير مواقعه ولا علم لنا به إيجاد المشي من الخائض في ماء غمر ‏{‏مع الخائضين *‏}‏ بحيث صار لنا هذا وصفاً راسخاً فنقول في القرآن‏:‏ إنه سحر، وإنه شعر، وإنه كهانة وغير هذا من الأباطيل، لا نتورع عن شيء من ذلك، ولا نقف مع عقل، ولا نرجع إلى صحيح نقل، فليأخذ الذين يبادرون إلى الكلام في كل ما يسألون عنه من أنواع العلم من غير تثبت منزلتهم من هنا‏.‏

ولما كان الإدمان على الباطل يجر إلى غلبة الهزء والسخرية، وغلبه ذلك ولا بد توجب إفساد القوة العلمية بتصديق الكذب وتكذيب الصدق، قالوا بياناً لاستحبابهم الخلود‏:‏ ‏{‏وكنا نكذب‏}‏ أي بحيث صار لنا ذلك وصفاً ثابتاً ‏{‏بيوم الدين *‏}‏ ولما كان التقدير‏:‏ واستمر تكذيبنا لصيرورته لنا أوصافاً ثابتة‏.‏ بنوا عليه قولهم‏:‏ ‏{‏حتى أتانا‏}‏ أي قطعاً ‏{‏اليقين *‏}‏ أي بالموت أو مقدماته التي قطعتنا عن دار العمل فطاح الإيمان بالغيب‏.‏

ولما أقروا على أنفسهم بما أوجب العذاب الدائم، فكانوا ممن فسد مزاجه فتعذر علاجه، سبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فما تنفعهم‏}‏ أي في حال اتصافهم بهذه الصفات وهي حالة لازمة لهم دائماً ‏{‏شفاعة الشافعين *‏}‏ أي لو شفعوا فيهم‏.‏ ولما كان هذا الإخبار بنعيم المنعم وعذاب المعذب موجباً للتذكر، سبب عنه الإنكار عليهم فقال‏:‏ ‏{‏فما‏}‏ أي أيّ شيء يكون ‏{‏لهم‏}‏ حال كونهم ‏{‏عن التذكرة‏}‏ أي التذكر العظيم خاصة بالقرآن خصوصاً وبغيره عموماً ‏{‏معرضين *‏}‏ وعلى الباطل وحده مقبلين، وذلك من أعجب العجب، لأن طبع الإنسان إذا حذر من شيء حذره أشد الحذر كما لو حذر المسافر من سبع في طريقه فإنه يبذل جهده في الحيدة عنه والحذر منه وإن كان المخبر كاذباً، فكيف يعرضون عن هذا المحذور الأعظم والمخبر أصدق الصادقين، فإعراضهم هذا دليل على اختلال عقولهم واختبال فهومهم، وزاد ذلك عجباً شدة نفارهم حتى ‏{‏كأنهم‏}‏ في إعراضهم عن التذكرة من شدة النفرة والإسراع في الفرة ‏{‏حمر‏}‏ أي من حمر الوحش وهي أشد الأشياء نفاراً، ولذلك كان أكثر تشبيهات العرب في وصف الإبل بسرعة السير بالحمر في عدوها إذا وردت ماء فأحست عليه ما يريبها، وفي تشبيه الكفرة بالحمر ولا سيما في هذه الحالة مذمة ظاهرة وتهجين لحالهم بين، وشهادة عليهم بالبله وقلة العقل وعدم التثبت ‏{‏مستنفرة *‏}‏ أي موجدة للنفار بغاية الرغبة فيه حتى كأنها تطلبه من أنفسها لأنه من شأنها وطبعها- هذا على قراءة الجماعة، وقرأ أهل المدينة والشام بالفتح بمعنى أنه نفرها منفر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 56‏]‏

‏{‏فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ‏(‏51‏)‏ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً ‏(‏52‏)‏ كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ ‏(‏53‏)‏ كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ‏(‏54‏)‏ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ‏(‏55‏)‏ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ‏(‏56‏)‏‏}‏

ولما كان ذلك لا يكون إلا لسبب عظيم يتشوف إليه، استأنف قوله‏:‏ ‏{‏فرت من قسورة *‏}‏ أي أسد شديد القسر عظيم القهر فنشبت في حبائل سقر أو صيادين‏.‏

ولما كان الجواب قطعاً‏:‏ لا شيء لهم في إعراضهم هذا، أضرب عنه بقوله‏:‏ ‏{‏بل يريد‏}‏ أي على دعواهم وبزعمهم ‏{‏كل امرئ منهم‏}‏ أي المعرضين، مع ادعائه الكمال في المروءة ‏{‏أن يؤتى‏}‏ أي من السماء بناه للمفعول لأن مرادهم معروف ‏{‏صحفاً‏}‏ أي قراطيس مكتوبة ‏{‏منشرة *‏}‏ أي كثيرة جداً وكل واحد منها منشور لا مانع من قراءته وأخذه، وذلك أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لن نتبعك حتى تأتي كلاًّ منا بكتاب من السماء فيه‏:‏ من الله إلى فلان اتبع محمداً صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولما كان ذلك إنما هو تعنت، لا أنه على حقيقته قال‏:‏ ‏{‏كلا‏}‏ أي ليس لهم غرض في الاتباع بوجه من الوجوه لا بهذا الشرط ولا بغيره‏:‏ ‏{‏بل‏}‏ علتهم الحقيقية في هذا الإعراض أنهم ‏{‏لا يخافون‏}‏ أي في زمن من الأزمان ‏{‏الآخرة *‏}‏ ولما كان فعلهم هذا فعل من يعتقد في القرآن أنه ليس بوعظ صحيح يستحق أن يتبع، قال رادعاً لهم عن هذا اللازم‏:‏ ‏{‏كلا‏}‏ أي ليس الأمر قطعاً كما تزعمون من أن هذا القرآن لا يستحق الإقبال، ثم أستأنف قوله مؤكداً لأجل ما تضمن هذا الفعل من إنكارهم‏:‏ ‏{‏إنه‏}‏ أي القرآن ‏{‏تذكرة *‏}‏ أي موضع وعظ عظيم يوجب إيجاباً عظيماً اتباعه وعدم الانفكاك عنه بوجه فليس لأحد أن يقول‏:‏ أنا معذور لأني لم أجد مذكراً ولا معرفاً فإن عنده أعظم مذكر وأشرف مفرق‏.‏

ولما كان في غاية السهولة والحلاوة لكل من عرفه بوجه من الوجوه، وكان الله سبحانه قد خلق القوى والقدر، وجعل للعبد اختياراً، قال مسبباً عن كونه موضعاً للتذكر‏:‏ ‏{‏فمن شاء‏}‏ أي أن يذكره ‏{‏ذكره *‏}‏ فثبت في صدره وعلم معناه وتخلق به، فليس أحد يقدر أن يقول‏:‏ إنه صعب التركيب عظيم التعقيد عسر الفهم، يحتاج في استخراج المعاني منه إلى علاج كبير وممارسة طويلة فأنا معذور في الوقوف عنه، بل هو كالبحر الفرات، من شاء اغترف، لأنه خوطب به أمة أمية لا ممارسة لها لشيء من العلوم، فسهل في لفظه ومعناه غاية السهولة مع أنه لا يوصل إلى قراره ولا يطمع في مناظرة أثر من آثاره، بل كلما زاد الإنسان فيه تأملاً زاده معاني‏.‏

ولما كان هذا ربما أوهم أن للعبد استقلالاً بالتصرف، قال معلماً بأن هذا إنما هو كناية عما له من السهولة والحلاوة والعذوبة التي توجب عشقه لكل ذي لب منبهاً على ترك الإعجاب وإظهار الذل والالتجاء والافتقار إلى العزيز الغفار في طلب التوفيق لأقوم طريق‏:‏ ‏{‏وما يذكرون‏}‏ أي ولا واحد منكم هذا القرآن ولا غيره في وقت من الأوقات ‏{‏إلا أن يشاء الله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي لا أمر لأحد معه، وهو صريح في أن فعل العبد من المشيئة، وما ينشأ عنها إنما هو بمشيئة الله‏.‏

ولما ثبت أنه سبحانه الفعال لما يريد وأنه لا فعل لغيره بدون مشيئته، وكان من المعلوم أن أكثر أفعال العباد مما لا يرضيه، فلولا حلمه ما قدروا على ذلك، وكان عفو القادر مستحسناً، قال مبيناً لأنه أهل للرهبة والرغبة‏:‏ ‏{‏هو‏}‏ أي وحده ‏{‏أهل التقوى‏}‏ أي أن يتقوه عباده ويحذروا غضبه بكل ما تصل قدرتهم إليه لما له من الجلال والعظمة والقهر، ويجوز أن يكون الضمير للمتقي ‏{‏وأهل المغفرة *‏}‏ أي لأن يطلب غفرانه للذنوب لا سيما إذا اتقاه المذنب لأن له الجمال واللطف وهو قادر ولا قدرة لغيره ولا ينفعه شيء ولا يضره شيء، فهو الحقيق بأن يجعل موضع الإنذار الذي أمر به أول السورة البشارة، ويوفق عباده لتكبيره وهجران الرجز، وكذا فعل سبحانه بقوم هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، روى أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والطبراني في الأوسط والحاكم وأبو يعلى والبغوي والبزار عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه قرأ هذه الآية ثم قال‏:‏ يقول الله‏:‏ أنا أهل أن أتقي، فمن اتقى أن يشرك بي غيري فأن أهل أن أغفر له» وقال الترمذي وابن عدي والطبراني‏:‏ تفرد به سهل بن أبي حزم القطعي، فقد رجع آخر السورة على أولها، وانطبق مفصلها على موصلها، بضم البشارة إلى النذارة، وصار كأنه قيل‏:‏ أنذر العاصي فإنه أهل لأن يرجع إلى طاعاته، فيكون سبحانه أهلاً لأن يعود عليه بستر زلاته‏.‏

سورة القيامة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 7‏]‏

‏{‏لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ‏(‏1‏)‏ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ‏(‏2‏)‏ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ‏(‏3‏)‏ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ‏(‏4‏)‏ بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ‏(‏5‏)‏ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ‏(‏6‏)‏ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ‏(‏7‏)‏‏}‏

لما ذكر سبحانه الآخرة أول سورة المدثر وخوف منها بالتعبير بالناقور وما تبعه، ثم أعاد أمرها آخرها، وذكر التقوى التي هي أعظم أسباب النجاح فيها والمغفرة التي هي الدواء الأعظم لها، وكان الكفار يكذبون بها، وكان سبحانه قد أقام عليها من الأدلة من أول القرآن إلى هنا تارة مع الإقسام وأخرى مع الخلو عنه ما صيرها في حد البديهيات، وكانت العادة قاضية بأن المخبر إذا كذبه السامع حلف على ما أخبره به، وكان الإقسام مع تحقق العناد لا يفيد، أشار سبحانه وتعالى إلى أن الأمر قد صار غنياً عن الإقسام لما له من الظهور الذي لا ينكره إلا معاند، فقال مشيراً إلى تعظيمها والتهويل في أمرها بذكرها وإثبات أمرها بعدم الإقسام أو تأكيده‏:‏ ‏{‏لا أقسم‏}‏ أي لا أوقع الإقسام أو أوقعه مؤكداً ‏{‏بيوم القيامة *‏}‏ على وجود يوم القيامة أو بسبب وجوده لأن الأمر غني فيه عن ذلك وعلى القول بأنه قسم هو مؤكد بالنافي، ودخوله في التأكيد سائغ بل شائع في كلامهم جداً، وجاز القسم بالشيء على وجوده إشارة إلى أنه في العظمة في الدرجة العليا كما يقول الإنسان‏:‏ والله إن الله موجود، أي لا شيء أحلف به على وجوده- يا أيها المنكر- أعظم منه حتى أحلف به ولا بد لي من الحلف لأجل إنكارك فأنا أحلف به عليه، فالمعنى حينئذ أنه لا شيء أدل على عظمة الله من هذين الشيئين فلذا أوقع القسم بهما، وسر التأكيد ب «لا»- كما قال الرازي في اللوامع، إن الإثبات من طريق النفي آكد كأنه رد على المنكر أولاً ثم أثبت القسم ثانياً، فإن الجمع بين النفي والإثبات دليل الحصر‏.‏

ولما كان من المقرر المعلوم الذي هو في أقصى غايات الظهور أن من طلبه الملك طلب عرض وحساب وثواب وعقاب يلوم نفسه في كونه لم يبالغ في العمل بما يرضي الملك والإخلاص في موالاته، والتحيز إليه ومصافاته‏.‏ وكان أكثر لوم النفس واقعاً في ذلك اليوم، وكان إدراكها للوم المرتب على إدراك الأمور الكلية والجزئية ومعرفة الخير والشر، والتمييز بينهما من أعظم الدلائل على تمام قدرة الخالق وكمال عظمته الموجب لإيجاد ذلك اليوم لإظهار عظمته وحكمه وحكمته قال ‏{‏ولا أقسم بالنفس‏}‏ على حد ما مضى في أن الباء صلة أو سبب ‏{‏اللوامة *‏}‏ أي التي تلوم صاحبها وهي خيرة وشريرة، فالخيرة تكون سبباً للنجاة فيه والأخرى تكون سبباً للهلاك فيه، فإن لامت على الشر أو على التهاون بالخير أنجت، وإن لامت على ضد ذلك أهلكت، وكيفما كانت لا بد أن تلوم، وهي بين الأمارة والمطمئنة، فما غلب عليها منهما كانت في حيزه، قال الرازي في اللوامع‏:‏ فالمطمئنة التي انقادت لأوامر الله، والأمارة المخالفة لها المتبعة للهوى، واللوامة هي المجاهدة، فتارة لها اليد وتارة عليها، وهي نفس الإنسان خاصة لأنها بين طوري الخير والشر والكمال والنقصان والصعود والهبوط والطاعة والعصيان، قال الإمام السهروردي في الباب السادس والخمسين من معارفه‏:‏ وهي نفس واحدة لها صفات متغايرة، فالملائكة في درجة الكمال، والحيوانات الأخر في دركة النقصان‏.‏

ولهذا جمع بين القيامة وبين اللوامة، لأن الثواب والعقاب للآدمي دون الملائكة والحيوانات العجم، واللوامة يشتد لومها في ذلك اليوم على عدم الخير أو عدم الزيادة منه، لا أقسم على ذلك بهذا الذي هو من أدل الأمور على عظمته سبحانه فإن الأمر في ذلك غني عن القسم‏.‏

ولما كان التقدير قطعاً بما يرشد إليه جميع ما مضى جواباً للقسم‏:‏ إنك والله صادق في إنذارك فلا بد أن ينقر في الناقور بالنفخ في الصور‏.‏ قال بانياً عليه بعد الإشارة إلى تعظيم أمر القيامة بما دل عليه حذف الجواب من أنها في وضوح الأمر وتحتم الكون على حالة لا تخفى على أحد منكراً على من يشك فيها بعد ذلك‏:‏ ‏{‏أيحسب الإنسان‏}‏ أي هذا النوع الذي يقبل على الأنس بنفسه والنظر في عطفه والسرور بحسبه، وأسند الفعل إلى النوع كله لأن أكثرهم كذلك لغلبة الحظوظ على العقل إلا من عصم الله ‏{‏أن‏}‏ أي أنا‏.‏

ولما كان فيهم من يبالغ في الإنكار، عبر أيضاً بأداة التأكيد فقال‏:‏ ‏{‏لن نجمع‏}‏ أي على ما لنا من العظمة ‏{‏عظامه *‏}‏ أي التي هي قالب بدنه وعماده من الأرض فيعيدها كما كانت بعد تمزقها وتفتتها وافتراقها وبلاها وانمحاقها، وقد سدت المخففة مسد مفعولي «يحسب» المقدرين ب «يحسبنا» غير جامعين‏.‏

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير‏:‏ لما تقدم قوله مخبراً عن أهل الكفر ‏{‏وكنا نكذب بيوم الدين‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 46‏]‏ ثم تقدم في صدر السورة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا نقر في الناقور‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 8‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏غير يسير‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 9‏]‏ والمراد به يوم القيامة، والوعيد به لمن ذكر بعد في قوله ‏{‏ذرني ومن خلقت وحيداً‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 11‏]‏ الآيات ومن كان على حاله في تكذيب وقوع ذلك اليوم، ثم تكرر ذكره عند جواب من سئل بقوله ‏{‏ما سلككم في سقر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 42‏]‏ فبسط القول في هذه السورة في بيان ذكر ذلك اليوم وأهواله، وأشير إلى حال من كذب به في قوله تعالى ‏{‏يسأل أيان يوم القيامة‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 6‏]‏ وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 3‏]‏ ثم أتبع ذلك بذكر أحوال الخلائق في ذلك اليوم ‏{‏ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 13‏]‏ انتهى‏.‏

ولما أسند الحسبان إلى النوع لأن منهم من يقول‏:‏ لا نبعث لأننا نتفتت وننمحق، قال مجيباً له‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏ أي لنجمعن عظامه وجمع أجزائه لأنا قدرنا على تفصيل عظامه وتفتيتها من بعد ارتتاقها حال كونها نطفة واحدة لأن كل من قدر على التفصيل قدر على الجمع والتوصيل حال كوننا ‏{‏قادرين‏}‏ أي لما لنا من العظمة ‏{‏على أن‏}‏‏.‏

ولما كانت تسوية الصغير أصعب، قال‏:‏ ‏{‏نسوي بنانه *‏}‏ أي أصابعه أو سلامياته وهي عظامه الصغار التي في يديه ورجليه كل منها طول إصبع وأقل، خصها لأنها أطرافه وآخر ما يتم به خلقه بأن نجمع بعضها إلى بعض على ما كانت عليه قبل الموت سواء، فالكبار بطريق الأولى لأنها أبين، ولا فرق بيبن تسويتنا ذلك من النطفة وتسويتنا له من التراب، وهي لا تكون مسواة وهي قالب البدن إلا بتسوية ما عليه من لباس اللحم والعصب والجلد كما يعهدها العاهد، فتسوية البنان كناية عن تسوية جميع البنيان كما لو قيل لك‏:‏ هل تقدر على تأليف هذا الحنظل، فقلت‏:‏ نعم، وعلى تأليف الخردل، مع ما يفهم من تخصيصها من التنبيه على ما فيها من بديع الصنع المتأثر عنه ما لها من لطائف المنافع، أو أن نسويها الآن فنجمعها على ما كانت عليه حال كونها نطفة من الاجتماع قبل فتقها وتفريقها حتى تكون كخف البعير، فإن القادر على تفصيل الأنامل حتى تتهيأ للأعمال اللطيفة قادر على جمعها، فتزول عنها تلك المنفعة‏.‏ ومن قدر على تفصيل الماء بعد اختلاطه وجمعه بعد انفصاله قادر على جمع التراب بعد افتراقه، وكيفما كان فهو تنبيه على التأمل في لطف تفصيل الأنامل وبديع صنعها الموجب للقطع بأن صانعها قادر على كل ما يريد، قال في القاموس‏:‏ البنان‏:‏ الأصابع أو أطرافها‏.‏ والسلامى- وزن حبارى‏:‏ عظام صغار طول إصبع أو أقل في اليد والرجل‏.‏

ولما تقدم ما أشار إلى أن القيامة في غاية الظهور، أضرب عن هذا الإنكار فقال بانياً على ما تقديره‏:‏ إنه لا يحسب عدم ذلك لأنه من الظهور في حد لا يحتاج إلى كبير تأمل فلو مشى مع عقله عرف الحق‏:‏ ‏{‏بل يريد‏}‏ أي يوقع الإرادة ‏{‏الإنسان‏}‏ أظهر في موضع الإضمار للتصريح بالتعميم لمقتضى الطبع الموجب له عدم الفكر في الآخر مع شدة ظهورها لأنه معني بشهواته فلا نجاة إلا بعصمة الله تعالى، وحذف مفعول «يريد» إشارة إلى أن كل ما يريده بمقضتى طبعه وشهواته خارج عن طوره فهو معاقب عليه لأنه عبد، والعبد يجب عليه أن يكون مراقباً للسيد، لا يريد إلا مايأمره به، فإذا أراد ما أمره به لم تنسب إليه إرادة بل الإرادة للسيد لا له‏.‏

ولما كان ذلك، وكانت إرادته الخارجة الخارجة عن الأمر معصية، قال معللاً‏:‏ ‏{‏ليفجر أمامه *‏}‏ أي يقع منه الإرادة ليقع منه الفجور في المستقبل من زمانه بأن يقضي شهواته ويمضي راكباً رأسه في هواه، ونفسه الكاذبة تورد عليه الأماني وتوسع له في الأمل وتطمعه في العفو من دون عمل، قال الحسن‏:‏ المؤمن ما تراه إلا يلوم نفسه ويقول‏:‏ ما أردت بكلامي‏؟‏ وما أردت بأكلي‏؟‏ والفاجر يمضي قدماً لا يحاسب نفسه ولا يعاتبها‏.‏

ويجوز أن يعود الضمير على الله تعالى ليكون المعنى‏:‏ ليعمل الفجور بين يدي الله تعالى وبمرأىً منه ومسمع ويطمع في أن لا يؤاخذه بذلك أو يجازيه بفجوره، قال في القاموس‏:‏ والفجر‏:‏ الانبعاث في المعاصي والزنا كالفجور‏.‏

ولما كان عريقاً في التلبس بهذا الوصف، أنتج له الاستهزاء بهذا الخطب الأعظم فترجم ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏يسئل‏}‏ أي سؤال استهزاء واستبعاد، ويوضع موضع مفعول يسأل جملة اسمية من خبر مقدم ومبتدأ مؤخر فقال‏:‏ ‏{‏أيان‏}‏ أي أيّ وقت يكون ‏{‏يوم القيامة *‏}‏ ولما كان الجواب‏:‏ يوم يكون كذا وكذا، عدل عنه إلى ما سبب عن استبعاده لأنه أهول، فقال دالاً على خراب العالم لتجرد الإنسان عن مسكنه وما ألفه من أحواله فيكون أهول معبراً بأداة التحقق لأنها موضعها‏:‏ ‏{‏فإذا برق البصر *‏}‏ أي شخص وقف فلا يطرف من هول ما يرى- هذا على قراءة نافع بالفتح، وهي إشارة إلى مبدأ حاله، وقراءة الجماعة بالكسر مشيرة إلى مآله فإن معناها‏:‏ تحير ودهش وغلب، من برق الرجل- إذا نظر إلى البرق فحسر بصره وتفرق تفرق الشيء في المايع إذا انفتح عنه وعاؤه بدليل قراءة بلق من بلق الباب- إذا انفتح، وبلق الباب كنصر‏:‏ فتحه كله، أو شديداً كأبلقه فانبلق، وبلق كفرح‏:‏ تحير- قاله في القاموس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 12‏]‏

‏{‏وَخَسَفَ الْقَمَرُ ‏(‏8‏)‏ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ‏(‏9‏)‏ يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ‏(‏10‏)‏ كَلَّا لَا وَزَرَ ‏(‏11‏)‏ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ‏(‏12‏)‏‏}‏

ولما كانت آيات السماوات أخوف، ذكرها بادئاً بما طبعه البرد، إشارة إلى شدة الحر والتوهج والأخذ بالأنفاس الموجب لشدة اليأس فقال‏:‏ ‏{‏وخسف القمر‏}‏ أي وجد خسفه بأن خسفه الله تعالى أذهب صورته كما تذهب صورة الأرض المخسوفة، وذلك بإذهاب ضوئه من غير سبب لزوال ربط المسببات في ذلك اليوم بالأسباب وظهور الخوارق بدليل قوله‏:‏ ‏{‏وجمع‏}‏ أي جمعاً هو في غاية الإحكام والشدة كما أفهمه التذكير وعلى أيسر الوجوه وأسهلها ‏{‏الشمس‏}‏ أي آية النهار ‏{‏والقمر *‏}‏ مع عدم إنارته وإن كان نوره الآن من نورها فذهب الانتفاع بهما وهما مع ذهاب النور وتفرق البصر مدركان لوجود الكشف التام عن الخفيات كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 22‏]‏ وبعد جمعهما يلقيان في النار كأنهما ثوران عقيران، وبني الفعل للمفعول لأن المهول مطلق جمعهما المخرج لهما عن العادة وللدلالة على السهولة‏.‏

ولما عظم أمر القيامة بما تقدم، أكد ذلك بأن الأمر فيه على غير ما نعهده في الدنيا من وجدان مهرب أو حاكم غير الذي يخافه المطلوب أو شيء من تشعب الكلمة وتفرقها فقال‏:‏ ‏{‏يقول الإنسان‏}‏ أي بشدة روعه جرياً مع طبعه ‏{‏يومئذ‏}‏ أي إذا كان هذا الخطب الأجل والقادح الأكبر، وحكى بيقول جملة اسمية من خبر مقدم ومبتدأ مؤخر فقال‏:‏ ‏{‏أين المفر *‏}‏ أي الفرار والموضع الذي إليه الفرار والزمان القابل لذلك، قول آيس مدهوش قاده إليه الطبع، وذلك حين تقاد جهنم بسبعين ألف سلسلة، كل سلسلة بأيد سبعين ألف ملك، لها زفير وشهيق‏.‏

ولما كان ذلك اليوم يوم انقطاع الأسباب، قال نافياً بما سال عنه بأداة الردع‏:‏ ‏{‏كلا‏}‏ أي لا يقال هذا فإنه لا سبيل إلى وجود معناه وهو معنى ‏{‏لا وزر *‏}‏ أي ملجأ ومعتصم ولا حصن ولا التجاء واعتصام، وكون هذا من كلام الإنسان رجوعاً من طبعه إلى عقله أقعد وأدل على الهول لأنه لا يفهم أنه بعد أن سأل من عظيم الهول نظر في جملة الأمر فتحقق أن لا حيلة بوجه أصلاً، فقال معبراً بالأداة الجامعة لمجامع الردع‏.‏

ولما كان المعنى‏:‏ لا مفر من الله إلا إليه، لأن ملكه محيط وقدرته شاملة، قال مترجماً عنه ذاكراً صفة الإحسان لوماً لنفسه على عدم الشكر‏:‏ ‏{‏إلى ربك‏}‏ أي المحسن إليك بأنواع الإحسان وحده، لا إلى شيء غيره ‏{‏يومئذ‏}‏ أي إذ كانت هذه الأشياء ‏{‏المستقر *‏}‏ أي استقرار الخلق كلهم ناطقهم وصامتهم ومكان قرارهم وزمانه إلى حكمه سبحانه ومشيئته ظاهراً وباطناً لا حكم لأحد غيره بوجه من الوجوه في ظاهر ولا باطن كما هو في الدنيا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 17‏]‏

‏{‏يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ‏(‏13‏)‏ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ‏(‏14‏)‏ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ‏(‏15‏)‏ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ‏(‏16‏)‏ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ ‏(‏17‏)‏‏}‏

ولما كان موضع السؤال عن علة هذا الاستقرار، قال مستأنفاً بانياً للمفعول لأن المنكئ إنما هو كشف الأسرار لا كونه من كاشف معين، وللدلالة على يسر ذلك عليه سبحانه وتعالى بأن من ندبه إلى ذلك فعله كائناً من كان‏:‏ ‏{‏ينبؤا‏}‏ أي يخبر تخبيراً عظيماً مستقصىً ‏{‏الإنسان يومئذ‏}‏ أي إذ كان هذا الزلزال الأكبر ‏{‏بما قدم‏}‏ أي من عمله العظيم ‏{‏وأخر *‏}‏ أي في أول عمره وآخره- كناية عن الاستقصاء أو بما قدمه فآثره على غيره هل هو الشرع أو الهوى أو بما عمل في مدة عمره وبما أخر عمله لمعاجلة الموت له عنه فيخبر بما كان يعمله من أمله لو مد في أجله، أو الذي قدمه هو ما عمله بنفسه وما أخره هو ما سنه فعمل به الناس من بعده من خير أو شر- قاله ابن عباس رضي الله عنهما، وعليه مشى الغزالي في الباب الثالث من كتاب البيع من الإحياء‏.‏

ولما عظم القيامة بكشف الأسرار فيها والإنباء بها، وكان الشأن أن الإنسان لا ينبأ إلا بما هو جاهل له أو غائب عنه، وكان مما يخف على الإنسان في الدنيا النسيان، وكان ذلك اليوم يوم كشف الغطاء، زاده عظماً بالإعلام بأنه يجلو بصيرة الإنسان حتى يصير مستحضراً لجميع ما له من شأن، فكان التقدير‏:‏ وليس جاهلاً بشيء من ذلك ولا محتاجاً إلى الإنباء به، قال بانياً عليه‏:‏ ‏{‏بل الإنسان‏}‏ أي كل واحد من هذا النوع ‏{‏على نفسه‏}‏ خاصة ‏{‏بصيرة *‏}‏ أي حجة بينة على أعماله، فالهاء للمبالغة- يعني أنه في غاية المعرفة لأحوال نفسه فإنه إذا تأمل وأنعم النظر ولم يقف مع الحظوظ عرف جيد فعله من رديئه، أما في الدنيا فلان الفطر الأولى شاهدة بالخير والشر- كما أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ «البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في الصدر وترددت فيه النفس وإن أفتاك الناس وأفتوك» رواه الإمام أحمد عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت»- رواه البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه، وأما في الآخرة فإن الله يعطيه في ذلك اليوم قوة الذكرى حتى تصير أعماله كلها بين عينيه لأنه تعالى ينفي عنه الشواغل البدنية ويكشف عنه الحجب النفسانية حتى تصير أعماله ممثلة له كأنه يراها ولا تنفعه معذرته، لأن كل شيء يعتذر به عن نفسه يعرف كذبه بنفس وجوده لا بشيء خارج عنه تارة يكون خالقه أوجده على ما هو عليه من العلم وسلامة الأسباب المزيلة للعلل وتارة بإنطاق جوارحه‏.‏

ولما كان الإنسان يعتذر في ذلك اليوم عن كل سوء عمله، ويجادل أعظم مجادلة، وكان المجادل في الغالب يظن أنه لم يذنب أو لا يعلم له ذنباً، قال‏:‏ ‏{‏ولو ألقى‏}‏ أي ذكر بغاية السرعة ذلك الإنسان من غير تلعثم دلالة على غاية الصدق والاهتمام والتملق ‏{‏معاذيره *‏}‏ أي كل كلام يمكن أن يخلص به، جمع عذر أو معذرة وهو إيساع الحيلة في دفع الخلل‏:‏ وقال في القاموس‏:‏ المعاذير‏:‏ الستور والحجج جمع معذار، وذلك لاشتراكهما في مطلق الستر بالفتح والستر بالكسر في ستر المذنب والحجة في ستر الذنب فالمعنى أنه حجة على نفسه ولو احتج عنها واجتهد في ستر عيوبها، فلا تقبل منها الأعذار، لأنه قد أعطى البصيرة فأعماها بهون النفس وشهواتها، وتلك البصيرة هي نور المعرفة المركوز في الفطرة الأولى وهي كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا ينفع الظالمين معذرتهم‏}‏‏.‏

ولما كان معنى هذا كله أن الإنسان محجوب في هذه الدار عن إدراك الحقائق بما فيه من الحظوظ والكسل والفتور، لما فيه من النقائص، وكان النبي صلى الله عليه وسلم مبرءاً من ذلك لخلق الله له كاملاً وترقيته بعد ميلاده كل يوم في مراقي الكمال حتى صار إلى حد لا يشغله عن العلوم شيء فكان بحيث يرى مواقع الفتن خلال البيوت كمواقع القطر، ويرى من ورائه كما يرى من أمامه، ويقول‏:‏ «والله لا يخفى عليّ خشوعكم ولا ركوعكم إني أراكم من وراء ظهري» وكان صلى الله عليه وسلم يرى في أشد الظلام وغير ذلك مما له صلى الله عليه وسلم من رقة الجوهر الذي لم ينله أحد غيره، وذلك مما يدل على الكشف التام ولكنه كان صلى الله عليه وسلم لتعظيمه لهذا القرآن لما له في نفسه من الجلالة ولما فيه من خزائن السعادة والعلوم التي لا حد لها فتستقصى، ولأنه كلام الملك الأعظم، وبأمره نزل إليه صلى الله عليه وسلم مع رسوله جبريل عليه الصلاة والسلام، يعالج عند سماعه أول ما يأتيه شدة، فكان يحرك به لسانه استعجالاً بتعهده ليحفظه ولا يشذ عنه منه شيء، وكان قد ختم سبحانه ما قبلها بالمعاذير، وكانت العجلة مما يعتذر عنه، وكان الحامل على جميع ما يوجب الملامة والاعتذار ما طبع عليه الإنسان من حب العاجل، قال سبحانه نتيجة عن هذه المقدمات الموجبة لانكشاف الأشياء للإنسان الموجب للإخبار بها والخوف من عواقبها لئلا يميل إلى العاجلة ولا يقع في مخالفة لولا ما شغله به من الحجب إعلاماً بأنه سبحانه وتعالى قد دفع عن النبي صلى الله عليه وسلم تلك الحجب وأوصله من رتبة «لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً» إلى أنهاها، وأنه قادر على ما يريد من كشف ما يريد لمن يريد كما يكشف لكل إنسان عن أعماله في القيامة حتى يصير يعرف ما قدم منها وما أخر، وتنبيهاً على أنه صلى الله عليه وسلم لا كسب له في هذا القرآن بغير حسن التلقي إبعاداً له عن قول البشر وتمهيداً بما يحرك من لسانه بالقرآن قبل تمام الإلقاء لذم ما طبع عليه الإنسان‏:‏ ‏{‏لا تحرك به‏}‏ أي القرآن الذي هو تذكرة من شاء ذكره لولا حجاب المشيئة، وقد كشف سبحانه وتعالى حجاب المشيئة لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وشاء أن يذكره حين قال

‏{‏وما تشاؤون إلا أن يشاء الله‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 30‏]‏ لأنه ما نزله إليه بغير اكتساب منه إلا وقد شاء ذلك ‏{‏لسانك‏}‏ الذي ليست له حركة إلا في ذكر الله تعالى‏.‏

ولما لم يكن لهذا التحريك فائدة مع حفظ الله له على كل حال إلا قصد الطاعة بالعجلة، وكانت العجلة هي الإتيان بالشيء قبل أوانه الأليق به، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم مثاباً على ذلك أعظم الثواب لأنه لا حامل له عليه إلا حب الله وحب ما يأتي منه، وجعلها الله سبحانه وتعالى علة وإن لم تكن مقصودة فقال‏:‏ ‏{‏لتعجل به‏}‏ أي بحمله وأخذه قبل أن يفرغ من إلقاءه إليك رسولنا جبريل عليه الصلاة والسلام مخافة أن ينفلت منك، لأن هذه العجلة وإن كانت من الكمالات بالنسبة إليك وإلى إخوانك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما قال موسى عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏وعجلت إليك رب لترضى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 84‏]‏ لأنها من النفس اللوامة التي تلوم على ترك المبادرة إلى أفعال الخير فغيرها من أفعال المطمئنة أكمل منها، فنقل صلى الله عليه وسلم من مقام كامل إلى أكمل منه، وكان هذا الكلام المتعلق بالقرآن والذي بعده فرقاناً بين صفتي اللوامة في الخير واللوامة في الشر، والآية ناظرة إلى قوله تعالى في المدثر حكاية «إن هذا إلا قول البشر» وما بينهما اعتراض في وصف حال القيامة جر إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سأصليه سقر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 26‏]‏ أي أن الذي خيل به المتقول في القرآن أمران‏:‏ أحدهما أنه سحر والآخر أنه قول البشر، والعلم اليقين حاصل بانتفاء الأول، وأما الثاني فكان النبي صلى الله عليه وسلم يخشى أن لا يتقن حفظه فتدخل عليه كلمة مثلاً فيكون من قول البشر فنهاه الله تعالى عن العجلة وضمن له الحفظ، ثم علل هذا النهي بقوله مؤكداً لأنه من مجراته‏:‏ ‏{‏إن علينا‏}‏ أي بما لنا من العظمة، لا على أحد سوانا ‏{‏جمعه‏}‏ أي في صدرك حتى نثبته ونحفظه ‏{‏وقرآنه *‏}‏ أي إطلاق لسانك به وإثباته في رتبته من الكتاب حال كونه مجموعاً أتم جمع ميسراً حسن تيسير فأرح نفسك مما تعالج في أمره من المشقة وتكابده من العناء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 24‏]‏

‏{‏فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ ‏(‏18‏)‏ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ‏(‏19‏)‏ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ‏(‏20‏)‏ وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ ‏(‏21‏)‏ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ‏(‏22‏)‏ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ‏(‏23‏)‏ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ‏(‏24‏)‏‏}‏

ولما نهاه أمره فقال‏:‏ ‏{‏فإذا قرأناه‏}‏ أي أقدرنا جبريل عليه الصلاة والسلام على تأديته إليك كما حملناه إياه بما لنا من العظمة وعلى حسبها ‏{‏فاتبع‏}‏ أي بغاية جهدك بإلقاء سمعك وإحضار ذهنك ‏{‏قرآنه *‏}‏ أي قراءته مجموعة على حسب ما أداه إليك رسولنا وجمعناه لك في صدرك، وكرر تلاوته حتى يصير لك به ملكة عظيمة واعمل به حتى يصير لك خلقاً فيكون قائدك إلى كل خير، فالضمير يجوز أن يكون للقرآن، يكون القرآن هنا بمعنى القراءة، عبر به عنها تعظيماً لها، أي اتبع قراءة القرآن أي قراءة جبريل عليه السلام له، ولو كان على بابه لم يكن محذوراً، فإن المراد به خاص وبالضمير عام، ويجوز أن يكون الضمير لجبريل عليه السلام أي اتبع قراءته ولا تراسله‏.‏

ولما كان بيان كلماته ونظومه على أي وجه سمعه من مثل صلصلة الجرس وغيرها وبيان معانيه وما فيه من خزائن العلم من العظمة بمكان يقصر عنه الوصف، أشار إليه بأداة التراخي، فقال دالاً على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة، مشعراً بأنه كان يعجل بالسؤال عن المعنى كما كان يعجل بالقراءة‏:‏ ‏{‏ثم‏}‏ وأكد ذلك إشارة إلى أنه لعظمه مما يتوقف فيه فقال‏:‏ ‏{‏إن علينا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏بيانه *‏}‏ أي بيان ألفاظه ومعانيه لك سواء سمعته من جبريل عليه الصلاة والسلام على مثل صلصلة الجرس أو بكلام الناس المعتاد بالصوت والحرف، ولغيرك على لسانك وعلى ألسنة العلماء من أمتك، والآية مشيرة إلى ترك مطلق العجلة لأنه إذا نهى عنها في أعظم الأشياء وأهمها كان غيره بطريق الأولى، روى البخاري في تفسير الآية في أول صحيحه وآخره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، كان يحرك شفتيه، قال سعيد بن جبير‏:‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ فأنا أحركهما لك كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما» فأنزل الله عز وجل الآية حتى قال‏:‏ جمعه في صدرك ثم تقرأه ‏{‏فإذا قرأناه فاتبع قرآنه‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 18‏]‏ قال‏:‏ فاستمع له وأنصت ثم إن علينا أن تقرأه، قال فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه جبريل عليه الصلاة والسلام استمع مطرقاً فإذا انطلق جبريل عليه الصلاة والسلام قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما أقرأه جبريل عليه الصلاة والسلام كما وعده الله بكفالة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 27- 28‏]‏‏.‏

ولما كان سبحانه وتعالى قد ختم الكلام في المكذبين بأن أعمالهم محفوظة، وأن كل أحد على نفسه شاهد، لأنه يعلم جميل ما يفعل من قبيحه وإن اعتذر، ولولاه ما اشتد اتصاله به، وختم بضمان البيان للقرآن، فكان شاهداً بيناً على كل إنسان بما له من عظيم البيان‏.‏

قال نافياً لما يظن من جهلهم بقبيح أفعالهم الذي اقتضاه اعتذارهم مشعراً بأن الآدمي مطبوع على الاستعجال بعد النهي عن العجلة في أعز الأشياء وأعلاها وأهمها وأولاها، لأنه أصل الدين ليكون ذلك مؤكداً للنهي عن العجلة بالقرآن ومؤكداً لذمهم بحب العاجلة مغلظاً لتوبيخهم على الميل مع الطبع وترك ما يقتضيه العلم والعقل‏:‏ ‏{‏كلا‏}‏ أي لا يجهل أحد منهم قبائح ما ارتكبه وإن اعتذر وما ارتكب شيئاً منها عن جهل ‏{‏بل‏}‏ هم ‏{‏يحبون‏}‏ أي محبة متجددة مستمرة على تجدد الزمان ‏{‏العاجلة *‏}‏ بدليل أنهم يقبلون غاية الإقبال عليها فيأخذونها، وحبّها أوجب لهم ارتكاب ما يعلمون قبحه فإن الآخرة والأولى ضرتان من أحب إحداهما فعل ولا بد ما يباعده عن الأخرى، فإن «حبك للشيء يعمي ويصم» وهذا بخلاف نبينا صلى الله عليه وسلم في مطلق العجلة فكيف بالعاجلة فإنما طبعناه على الكمال، فكان يعالج من العجلة بالقراءة شدة فحين نهيناه عن ذلك انتهى رجوعاً إلى طبعه الكامل الذي لا يشوبه نقص، وكذا كان أمره تكويناً لا إباء معه ولا كلفة، فإن نفسه المطمئنة هي الغالبة ولها السلطان الأكبر، ولأجل تضارر الدارين وكونهم يحبون العاجلة قال‏:‏ ‏{‏وتذرون‏}‏ أي يتركون على أي وجه كان ولو أنه غير مستحسن ‏{‏الآخرة *‏}‏ لانهم يبغضونها لارتكابهم ما يضربهم فيها، وجمع الضمير وإن كان مبنى الخطاب مع الإنسان نظراً نظراً للمعنى إشارة إلى أنه لا يسلم من العجلة المذمومة إلا أفراد حفظهم الله بقدرته الباهرة، والآية من الاحتباك‏:‏ ذكر الحب أولاً دليلاً على البغض ثانياً، والترك ثانياً دليلاً على الإقبال والأخذ أولاً، فأنفسهم اللوامة تلومهم على التقصير في الشر كما أن نفسك تحثك على الازدياد من الخير والمبادرة إليه، فنعم النفس هي ولتعلين مقامها، وأما أنفسهم فإنها تحثهم لأجل اللوم على التقصير في الشر على الإخلاد إلى العاجل الفاني والإقلاع عن الباقي لكونه غائباً فبئس الأنفس هي‏.‏

ولما ذكر الآخرة التي أعرضوا عنها، ذكر ما يكون فيها بياناً بجهلهم وسفههم وقلة عقلهم، ترهيباً لمن أدبر عنها وترغيباً لمن أقبل عليها لطفاً بهم ورحمة لهم فقال‏:‏ ‏{‏وجوه‏}‏ أي من المحشورين وهم جميع الخلائق ‏{‏يومئذ‏}‏ أي إذ تقوم القيامة ‏{‏ناضرة *‏}‏ من النضرة بالضاد، وهي النعمة والرفاهية أي هي بهية مشرقة ظاهر عليها أثر النعمة بحيث يدل ذلك على نعمة أصحابها ‏{‏إلى ربها‏}‏ أي المحسن لها خاصة باعتبار أن عُدَّ النظر إلى غيره كلا نظر ‏{‏ناظرة *‏}‏ أي دائماً هم محدقون أبصارهم نحو جوده بالتجلي لا غفلة لهم عن ذلك فإذا رفع الحجاب عنهم أبصروه بأعينهم بدليل جوده بالتجلي لا غفلة لهم عن ذلك فإذا رفع الحجاب عنهم أبصرره بأعينهم بدليل التعدية ب «إلى» وذلك، النظر جهرة من غير اكتتام ولا تضامّ ولا زحام- كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما وأكثر المفسرين وجميع أهل السنة، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحاح من وجوه كثيرة بحيث اشتهر غاية الشهرة، وتكون الرؤية كما مثلت في الأحاديث

«كما يرى القمر ليلة البدر» كل من يريد رؤيته من بيته مخلياً به- هذا وجه الشبه، لا أنه في جهة ولا في حالة لها شبيه- تعالى الله عن التشبيه، وهكذا رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام من الأشخاص المستكثرة في البلاد المتباينة في الوقت الواحد، وقدم الجار الدال على الاختصاص إشارة إلى هذا النظر مباين للنظر إلى غيره فلا يعد ذلك نظراً بالنسبة إليه، وإلى أن تلك الوجوه مستغرقة في مطالعة جماله بحيث لا تفتر عن ذلك، ولا يعد نظرها إلى ما سواه شيئاً، وهي آمنة من أن يفعل بها فاقرة، وعبر بالوجوه عن أصحابها لأنها أدل ما يكون على السرور، وليكون ذكرها أصرح في أن المراد بالنظر حقيقته، وزاده صراحة بالتعدية ب «إلى» فإن الانتظار لا يعدى بها، قال الإمام حجة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى في كتاب المحبة من الإحياء بعد أن جوّز أن يخلق الله النظر في الجهة وغيرها‏:‏ والحق ما ظهر لأهل السنة والجماعة من شواهد الشرع أن ذلك يخلق في العين ليكون لفظ الرؤية والنظر وسائر الألفاظ الواردة في الشرع مجرى على ظاهره إذ لا يجوز إزالة الظواهر إلا لضرورة- انتهى، وأهل الجنة متفاوتون في النظر‏:‏ روي أن منهم من ينظر إلى الله بكرة وعشية، وفي خبر آخر، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن، ومتفاوتون في مقدار الكشف في الجمال والأنس والبهجة التي يكون عنها اللذة بحسب أعمالهم‏.‏

ولما ذكر أهل النعمة، أتبعه أضدادهم من أهل النقمة فقال‏:‏ ‏{‏ووجوه يومئذ‏}‏ أي في ذلك اليوم بعينه ‏{‏باسرة *‏}‏ أي شديدة العبوس والكلوح والتكره لما هي فيه من الغم كأنها قد غرقت فيه فرسبت بعد أن سبرت أحوالها، فلم يظهر لها وجه خلاص، والباسل أبلغ من الباسر لكنه غلب في الشجاع لاشتداد كلوحه عند العراك، وتلك الوجوه عن ربها محجوبة، وإلى أنواع العذاب ناظرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 32‏]‏

‏{‏تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ‏(‏25‏)‏ كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ‏(‏26‏)‏ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ‏(‏27‏)‏ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ‏(‏28‏)‏ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ‏(‏29‏)‏ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ‏(‏30‏)‏ فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى ‏(‏31‏)‏ وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏32‏)‏‏}‏

ولما كان ظن الشر كافياً في الحذر منه والمبالغة في استعمال ما يحمي منه، قال دالاً على أنه عبر بالوجه عن الجملة‏:‏ ‏{‏تظن‏}‏ أي تتوقع بما ترى من المخايل‏:‏ ‏{‏أن يفعل‏}‏ بناه للمفعول لأن المحذور وقوع الشر لا كونه من معين ‏{‏بها‏}‏ أي بهم فإنه إذا أصيب الوجه الذي هو أشرف ما في الجملة كان ما عداه أولى ‏{‏فاقرة *‏}‏ أي داهية تكسر الفقار وهو عظم سلسلة الظهر الذي هو أصلب ما في العظام فتكون قاصمة الظهر، فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكر النظر في الأولى دليل على ضده في الثانية، وذكر الفاقرة في الثانية دليل على ضدها في الأولى‏.‏

ولما ذكر محبتهم للعاجلة بالمضارع الدال على التجدد والاستمرار، فاقتضى ذلك أنه حب غيره منفك التجدد أصلاً، أخبر أنه ينقطع عن هول المطلع مع الدلالة على تمام القدرة، وأنه لا يرد قضاؤه، فقال رادعاً لمن يظن عدم انقطاعه‏:‏ ‏{‏كلا‏}‏ أي لا يدوم هذا الحب بل لا بد أن ينقطع انقطاعاً قبيحاً جداً‏.‏ ولما كان المحب للدنيا هو النفس، أضمرها لذلك ولدلالة الكلام عليها فقال ذاكراً ظرف ما أفهم حرف الردع تقديره من عدم المحبة‏:‏ ‏{‏إذا بلغت‏}‏ أي النفس المقبلة على العاجلة بأمر محقق- بما أفهمته أداة التحقق ‏{‏التراقي *‏}‏ أي عظام أعالي الصدر، جمع ترقوة وهي العظام التي حول الحلقوم عن يمين ثغرة النحر وشمالها بين الثغرة وبين العاتق، ولكل إنسان ترقوتان، وهو موضع الحشرجة، لعله جمع المثنى إشارة إلى شدة انتشارها بغاية الجهد لما هي فيه من الكرب لاجتماعها من أقاصي البدن إلى هناك وضيق المجال عليها كأنها تريد أن تخرج من أدنى موضع يقرب منها، وهذا كناية عن الإشفاء على الموت وما أحسن قول حاتم الطائي وأشد التئامه مع ما هنا من أمر الروح‏:‏

أماويّ ما يغني الثراء عن الفتى *** إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر

ولما كان أهل الميت يشتد انزعاجهم إذ ذاك ويشتد تطلبهم لما ينجي المحتضر من غير أن يفيدهم ذلك شيئاً، فكان قولهم كأنه لا قائل له على التعيين، بني للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏وقيل‏}‏ أي من كل قائل يعز عليه الميت استفهام استبعاد‏:‏ ‏{‏من راق *‏}‏ أي من هو الذي يتصف برسوخ القدم في أمر الرقى الشافية ليرقيه فيخلصه مما هو فيه فإنه صار إلى حالة لا يحتمل فيها دواء فلا رجاء إلا في الرقى، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذا القول من بعض الملائكة للاستفهام عمن يرقى بروحه إلى السماء‏:‏ أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب‏؟‏ فالأول اسم فاعل من رقى يرقى بمعنى الرقية بالفتح في الماضي والكسر في المضارع، والثاني الذي بمعنى الصعود بالكسر في الماضي والكسر في المضارع‏.‏

ولما كان الإنسان مطبوعاً على الترجح بين الأمور الممكنة تتعلق لما يغلب عليه من طبع الإلف وشدة الركون لما يألفه بأدنى شيء، عبر عما هو أهل للتحقق بالظن فقال‏:‏ ‏{‏وظن‏}‏ أي المحتضر لما لاح له من أمور الآخرة أو القائل «هل من راق» من أهله ‏{‏أنه‏}‏ أي الشأن العظيم الذي هو فيه ‏{‏الفراق *‏}‏ أي لما كان فيه من محبوب العاجلة الذي هو الفراق الأعظم الذي لا فراق مثله، ففي الخبر أن العبد ليعالج كرب الموت وسكراته وأن مفاصله ليسلم بعضها على بعض يقول‏:‏ السلام عليك تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة‏:‏ ‏{‏والتفت الساق‏}‏ أي هذا النوع ‏{‏بالساق *‏}‏ أي انضمت إليها واتصلت بها ودارت إحداهما بالأخرى فكانتا كالشيء الواحد، وهو كناية عن الموت لأن المشي لا يكون إلا مع انفصال إحدى الساقين عن الأخرى، أو عن اشتداد الأمر جداً وبعده عن الخلاص، فإن العرب لا تذكر الساق في مثل هذا السياق إلا في أمر شديد مثل «شمر عن ساق» وإذا اشتد حراب المتحاربين‏:‏ «دنت السوق بعضها من بعض» فلا افتراق إلى عن موت أحدهما أو أشد من موته من هزيمته، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كناية عن اختلاط شدة آخر الدنيا بشدة أول الآخرة، وجواب إذا محذوف تقديره‏:‏ زال تعلقه الذي كان بالدنيا وحبه لها وإعراضه عن الآخرة‏.‏

ولما صور وقت تأسفه على الدنيا وإعراضه عنها، ذكر غاية ذلك فقال مفرداً النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب إشارة إلى أنه لا يفهم هذا حق فهمه غيره‏:‏ ‏{‏إلى ربك‏}‏ أي موعد وحكم المحسن إليك بإرسالك وتصديقك في جميع ما بلغته عنه ونصرك على كل من ناواك، لا إلى غيره ‏{‏يومئذ *‏}‏ أي إذ وقع هذا الأمر ‏{‏المساق *‏}‏ أي السوق وموضع السوق وزمانه، كل ذلك داخل في حكمه، قد انقطعت عنه أحكام أهل الدنيا، فإما أن تسوقه الملائكة إلى سعادة بينة وإما إلى شقاوة بينة، أو هو كناية عن عرضه بعد الموت على الله تعالى فلا ينفعه إذا حقق له الوعظ بالموت قوله‏:‏ أموت فأستريح، فإنه يرجع بالموت إلى سيده، فإن كان مطيعاً لقيه بما يرضيه، وإن كان عاصياً لقيه بما يلقى به العبد الآبق على قدر إباقه‏.‏

ولما ذكر كراهته للآخرة ذكر أن سببه إفساده ما آتاه الله من قوى العلم والعمل بتعطيلهما عن الخير واستعمالهما في الشر فقال مبيناً عمل العبد الموافق والآبق، عاطفاً على ‏{‏يسأل أيان‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 6‏]‏ الذي معناه جحد البعث‏:‏ ‏{‏فلا صدق‏}‏- أي هذا الإنسان الذي الكلام فيه- الرسول فيما أخبره بما كان يعمل من الأعمال الخبيثة، ولا إيمانه بالإنفاق في وجوه الخير التي ندب إليها واجبة كانت أو مسنونة، وحذف المفعول لأنه أبلغ في التعميم‏.‏

ولما ذكر أصل الدين، أتبعه فروعه دلالة على أن الكافر مخاطب بها فقال‏:‏ ‏{‏ولا صلّى *‏}‏ أي ما أمر به من فرض وغيره، فلا تمسك بحبل الخالق ولا وصل إلى حبل الخلائق على حد ما شرع ما‏.‏

ولما نفى عنه أفعال الخير، أثبت له أفعال الشر فقال‏:‏ ‏{‏ولكن‏}‏ أي فعل ضد التصديق بأن ‏{‏كذب‏}‏ أي بما أتاه من الله ‏{‏وتولى *‏}‏ أي وفعل ضد الصلاة التي هي صلة بين المخلوق والخالق، فاجتهد في خلاف ما تدعوه إليه فطرته الأولى المستقيمة من الإعراض عن الطاعة من الصلاة وغيرها حتى صار له ذلك ديدناً، فصارت الطاعة لا تخطر له بعد ذلك على بال لموت الفطرة الأولى وحياة النفس الأمارة بالسوء، وليس هذا بتكرار لأنه لا يلزم من عدم التصديق التكذيب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 40‏]‏

‏{‏ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ‏(‏33‏)‏ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ‏(‏34‏)‏ ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ‏(‏35‏)‏ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ‏(‏36‏)‏ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ‏(‏37‏)‏ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ‏(‏38‏)‏ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ‏(‏39‏)‏ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ‏(‏40‏)‏‏}‏

ولما كان الإصرار على هذا عظيماً يبعد كل البعد أن يعمله أحد فكيف بالافتخار به والتكبر لأجله، أشار إليه بأداة البعد، فقال مؤذناً بأن الحال على التكذيب الكبر، والحامل على الكبر الترف، وسبب ذلك الانقياد أولاً مع الطبع في إفساد القوتين‏:‏ العملية والعلمية حتى نشأ عنهما هذا الخلق السيئ، وهو عدم المبالاة، ولم يزل به ذلك حتى صار ملكة يفتخر به ‏{‏ثم ذهب‏}‏ أي هذا الإنسان بعد توليه عن الحق ‏{‏إلى أهله‏}‏ غير مفكر في عاقبة ما فعل من التكذيب حال كونه ‏{‏يتمطّى *‏}‏ أي يفتخر افتخاراً بتكذيبه وإعراضه وعدم مبالاته بذلك، من المط، أبدل الحرف الثاني ألفاً تخفيفاً فصار من المطي وهو الظهر كأنه يساعده على مد الخطى، أو أن المتبختر إذا مشى لوى ظهره، وإنما فعل هذا لمرونه على المعصية بدل الاستحياء والخجل والانكسار‏.‏

ولما كان هذا غاية الفجور، وكان أهل الإنسان يحبونه إذا أقبل إليهم لا سيما إذا كان على هذه الحالة عند أغلب الناس، أخبر بما هو حقيق أن يقال له في موضع «تحية أهله» من التهديد العظيم فقال‏:‏ ‏{‏أولى لك‏}‏ أي أولاك الله ما تكره، ودخلت اللام للتأكيد الزائد والتخصيص، وزاد التأكيد بقوله‏:‏ ‏{‏فأولى *‏}‏ أي ابتلاك الله بداهية عقب داهية، وأبلغ ذلك التأكيد إشارة إلى أنه يستحقه على مدى الأعصار، فقال مشيراً بأداة التراخي إلى عظيم ما ارتكب وقوة استحقاقه لهذا التأكيد‏:‏ ‏{‏ثم أولى لك‏}‏ أي أيها الذي قد أحل نفسه بالغفلة دون محل البهائم ‏{‏فأولى *‏}‏ أي وصلت إلى هذا الهلاك بداهية تعقبها تارة متوالياً وتارة متراخياً، وبعضها أعظم من بعض، لحقك ذلك لا محالة، فإن هذا دعاء ممن بيده الأمر كله، ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ أولى لك أن تترك ما أنت عليه وتقبل على ما ينفعك، وقال ابن جرير في تفسير المدثر‏:‏ إن أبا جهل لما استهزأ على جعل خزنة النار تسعة عشر أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيه فيأخذ بيده في بطحاء مكة فيقول له‏:‏ أولى لك- إلى آخرها، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو جهل‏:‏ والله لا تفعل أنت وربك شيئاً، فأخزاه الله يوم بدر- انتهى‏.‏ ويمكن تنزيل الكلمات الأربع على حالاته الأربع‏:‏ الحياة ثم الموت ثم البعث ثم دخول النار، فيكون المعنى‏:‏ لك المكروه الآن وفي الموت والبعث ودخول النار‏.‏ قال البغوي‏:‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «إن لكل أمة فرعوناً، وإن فرعون هذه الأمة أبو جهل» وقد أفهمت الآية أن من أصلح قوتي علمه وعمله بأن صدق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأقبل وأقام الصلاة فتبعتها جميع الأعمال التي هي عمادها، فنشأ عن ذلك خلق حسن وهو الوجل مع الطاعة، فهنالك يقال له‏:‏ بشرى لك فبشرى ثم بشرى لك فبشرى‏.‏

ولما كان هذا فعل من أعرض عن الله أصلاً فلم يخطر شيئاً من عظمته على باله، فكان ظاناً أنه مهمل لا مالك له وأنه هو السيد لا عبودية عليه، فلا يؤمر ولا ينهى ولا يعمل إلا بمقتضى شهواته، قال منكراً عليه معبراً بالحسبان الذي الحامل عليه نقص العقل‏:‏ ‏{‏أيحسب‏}‏ أي أيجوز لقلة علقه ‏{‏الإنسان‏}‏ أي الذي هو عبد مربوب ضعيف عاجز محتاج بما يرى في نفسه وأبناء جنسه‏.‏

ولما كان الحامل على الجراءة مطلق الترك هملاً، لا كون الترك من معين، قال بانياً للمفعول‏:‏ ‏{‏أن يترك‏}‏ أي يكون تركه بالكلية ‏{‏سدى *‏}‏ أي مهملاً لاعباً لاهياً لا يكلف ولا يجازى ولا يعرض على الملك الأعظم الذي خلقه فيسأله عن شكره فيما أسدى إليه، فإن ذلك منافٍ للحكمة، فإنها تقتضي الأمر بالمحاسن والنهي عن المساوئ والجزاء على كل منهما، وأكثر الظالمين والمظلومين يموتون من غير جزاء، فاقتضت الحكمة ولا بد البعث للجزاء‏.‏

ولما كان الإنسان يجري على ما في طبعه من النقائص فيغفل عما خلق له فتتراكم عليه ظلماته فيبعد عن علم ذلك إما بجهل بالحكمة أو بجهل بالقدرة، رحمه سبحانه بإعادة البرهان على المعاد بأمر يجمع القدرة والحكمة، وذلك أنه لا يجوز في عقل عاقل أن صانعاً يصنع شيئاً ويتركه ضياعاً وهو حكيم أو حاكم فكيف بأحكم الحكماء والحاكمين فقال منكراً عليه ظنه أنه يهمله سبحانه مع علمه بصنائعه المحكمة فيه، مقرراً أحوال بدايته التي لا يسوغ معها إنكار إعادته لأنها أدل على أنه لا مانع منها أصلاً، حاذفاً نون الكون إعلاماً بأن الأمر في هذه النتيجة العظمى ضاق عن أقل شيء يمكن الاستغناء عنه كراهية التمادي من الموعوظ على ما وعظ لأجله فيحصل له الهلاك، وإشارة إلى مهانة أصله وحقارته‏:‏ ‏{‏ألم يك‏}‏ أي الإنسان ‏{‏نطفة‏}‏ أي شيئاً يسيراً جداً ‏{‏من مني‏}‏ أي ماء من صلب الرجل وترائب المرأة مقصود ومقدر من الله للابتلاء والاختبار مثاله المنية التي هي الموت ‏{‏تمنى‏}‏ أي سبب الله للإنسان المعالجة في إخراجها بما ركب فيه من الشهوة وجعل له من الروح التي يسرها لقضاء وطره منها حتى أن وقت صبها في الرحم انصبت منه بغير اختياره حتى كأنه لا فعل له فيها أصلاً، ولذلك بنى الفعل لما لم يسم فاعله، ولما كان تكثير تلك النطفة وتحويلها أمراً عظيماً عجيباً، أشار إليه بأداة البعد مع إفادتها للتراخي في الزمان أيضاً فقال‏:‏ ‏{‏ثم كان‏}‏ أي كوناً محكماً ‏{‏علقة‏}‏ أي دماً أحمر عبيطاً شديد الحمرة والغلظة ‏{‏فخلق‏}‏ أي قدر سبحانه عقب ذلك لحمه وعظامه وعصبه وغير ذلك من جواهره وأعراضه ‏{‏فسوى *‏}‏ أي عدل عن ذلك خلقاً آخر غاية التعديل شخصاً مستقلاً‏.‏

ولما كان استبعادهم للقيامة إما لاستبعاد القدرة على إعادة الأجزاء بعد تفرقها أو لاستبعاد القدرة على تمييز ترابها من تراب الأرض بعد الاختلاط، وكان تمييز النطفة إلى ذكر وأنثى كافياً في رد الاستبعادين قال‏:‏ ‏{‏فجعل‏}‏ أي بسبب النطفة ‏{‏منه‏}‏ أي هذا الماء الدافق أو المخلوق المسوى وهما شيء واحد ‏{‏الزوجين‏}‏ أي القرينين اللذين لا يمكن الانتفاع بأحدهما إلا بالآخر، ثم بينهما بقوله‏:‏ ‏{‏الذكر والأنثى *‏}‏ وهما كما تعلمون متباينان في الطباع مختلفان في أوصاف الأعضاء والآلات والمتاع، كما لم يترك النطفة حتى صيرها علقة ولا ترك العلقة حتى صيرها مضغة ولا ترك المضغة حتى صيرها عظاماً ولم يترك العظام حتى صيرها خلقاً آخر إلى تمام الخلقة لتمام الحكمة الظاهرة وفصلها إلى ذكر وأنثى وهي ماء، تمييز ما يصلح منه للذكر وما يصلح منه للأنثى أشد وأخفى من تمييز تراب الميت من تراب الأرض، فكذلك لا يترك الجسم بعد موته حتى يعيده ثم يبعثه إلى آخر ذلك لتمام الحكمة الباطنة وهي الجزاء والحكم الذي هو خاصة الملك‏.‏

ولما تقرر من حيث إتقان الاصطناع أنه لا يجوز معه الإهمال وانقطاع النزاع، وكان ربما توقف من حيث ظن عدم القدرة على ذلك بعد الموت، قال منبهاً على تمام القدرة مقرراً عليه منكراً على من يتوقف فيه موبخاً له مرتباً على ما قام على القدرة على الإعادة من دليل القدرة الشهودي على البداية‏:‏ ‏{‏أليس ذلك‏}‏ أي الخالق المسوي الإله الأعظم الذي قدر على هذه الإنشاءات وصنع هذه الصنائع المتقنة التي لا يقدر غيره على شيء منها، وأعرق في النفي فقال‏:‏ ‏{‏بقادر‏}‏ أي عظيم القدرة ‏{‏على أن يحيي‏}‏ أي كيف أراد دفعة أو في أوقات متعاقبة ‏{‏الموتى *‏}‏ فيقيم القيامة بل وعزته وجلاله وعظمته وكماله إنه على كل ما يريد قدير، وقد رجع آخر السورة على أولها أتم رجوع، والتأم به أتم التئام، فتمت معانيها أعظم تمام بجمع العظام وإيجاد القيام ليوم التغابن والزحام- أعاننا الله فيه بحسب الختام، روى البغوي بسنده من طريق أبي داود عن أعرابي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من قرأ منكم ‏{‏والتين والزيتون‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 1‏]‏ فانتهى إلى آخرها ‏{‏أليس الله بأحكم الحاكمين‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 8‏]‏ فليقل‏:‏ بلى وأنا على ذلك من الشاهدين، ومن قرأ ‏{‏لا أقسم بيوم القيامة‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 1‏]‏ فانتهى إلى قوله ‏{‏أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 40‏]‏ فليقل بلى، ومن قرأ المرسلات فقرأ ‏{‏فبأي حديث بعده يؤمنون‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 50‏]‏ فليقل‏:‏» آمنا بالله «ورواه الترمذي وقال في آخر القيامة أن يحيي الموتى‏:‏» بلى وعزة ربنا «وقال الحافظ نور الدين الهيثمي في مجمع الزوائد‏:‏ وروى أحمد وفيه رجلان لم أعرفهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏» قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من قرأ‏:‏ والمرسلات عرفاً فبأي حديث بعده يؤمنون، ومن قرأ‏:‏ والتين والزيتون، فليقل‏:‏ وأنا على ذلك من الشاهدين، ومن قرأ‏:‏ أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى، فليقل بلى «والله الهادي للصواب‏.‏